فصل: قال السمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الماعون فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الأولى قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ، وَقَدْ يَكُونَ بِقَصْدٍ، وَقَدْ يَكُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَصْدٍ فَاسْمُهُ الْعَمْدُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَاسْمُهُ السَّهْوُ، وَلَا يَتَعلق بِهِ تَكْلِيفٌ وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:
فَإِنَّ تَكْلِيفَ السَّاهِي مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ كَيْفَ يُخَاطَبُ؟ فَإِنْ قال: فَكَيْفَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الذَّمَّ؛ أَوْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْلِيفُ؟.
قلنا: إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وجهين:
أحدهما: أَنْ يَعْقِدَ نِيَّتَهُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَتَعلق بِهِ الذَّمُّ إذَا جَاءَ الْوَقْتُ.
وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ غَافِلًا أَوْ لِمَنْ يَكُونُ التَّرْكُ لَهَا عَادَتَهُ، فَهَذَا يَتَعلق بِهِ الذَّمُّ دَائِمًا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ:
لِأَنَّ السلامةَ عَنْ السَّهْوِ مُحَالٌ فَلَا تَكْلِيفَ.
وَقَدْ سَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَلَا يَعْقِلُ قراءتها، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي إعْدَادِهَا وَهَذَا رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ وَيَرْمِي اللُّبَّ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ إلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمَ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إذَا قال لَهُ: اُذْكُرْ كَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ حَتَّى يُضِلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صلى.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
قال ابْنُ وَهْبٍ: قال مَالِكٌ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ؛ يُرِي الْمُنَافِقُ النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقِيَّةً، وَالْفَاسِقُ أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقال إنَّهُ يُصَلِّي.
وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَاتِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ؛ فَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ؛ وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالثَّنَاءَ.
ثَانِيهِمَا الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ وَالْخَشِنَةِ، لِيَأْخُذَ بِذَلِكَ هَيْئَةَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا.
ثَالِثُهُمَا الرِّيَاءُ بِالْقول بِإِظْهَارِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنْ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ.
رَابِعُهُمَا الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَطُولُ؛ وَهَذَا دَلِيلُهُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى: فِي تَحْقِيقِ الْكَلِمَةِ:
الْمَاعُونَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، وَالْعَوْنُ هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْقُوَّةِ وَالْآلَةِ وَالْأَسْبَابِ الْمُيَسِّرَةِ لِلْأمر.
المسألة الثَّانِيَةُ:
فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الأول: قال مَالِكٌ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قال: بَلَغَنِي أَنَّ قول اللَّهِ تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال: إنَّ الْمُنَافِقَ إذَا صلى صلى لَا لِلَّهِ، بَلْ رِيَاءً، وَإِنْ فَاتتهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا؛ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ: الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ خُفِّفَتْ لَهُمْ الصَّلَاةُ كَمَا خُفِّفَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ مَا صَلَّوْهَا.
الثَّانِي: قال ابْنُ شِهَابٍ: الْمَاعُونُ الْمَالُ.
الثَّالِثُ: قال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
الرَّابِعُ هُوَ الْقِدْرُ وَالدَّلْوُ وَالْفَأْسُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْخَامِسُ هُوَ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ.
السَّادِسُ هُوَ الْمَاءُ وَحْدَهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: يَمُجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا.
المسألة الثَّالِثَةُ:
لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَاعُونَ مِنْ الْعَوْنِ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ عَوْنًا، وَأَعْظَمُهُ الزَّكَاةُ إلَى الْمِحْلَابِ، وَعَلَى قَدْرِ الْمَاعُونِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ يَكُونُ الذَّمُّ فِي مَنْعِهِ، إلَّا أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْعِ الْوَاجِبِ، وَالْعَارِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ؛ بَلْ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْوَيْلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَنَعَ الْوَاجِبَ، فَاعْلَمُوهُ وَتَحَقَّقُوهُ. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} الآية،
هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر وهي قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، والجواب عن هذا في غاية الظهور، وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} الآية، وهم المنافقون على التحقيق، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال وظهور الجواب عنه؛ لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية، وقد سمعنا من ثقات وغيرهم أن رجلا قال لظالم تارك الصلاة مالك لا تصلي؟ فقال: لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقال له: اقرأ ما بعدها، فقال: لا حاجة لي فيما بعدها فيها كفاية في التحذير من الصلاة، ومن هذا القبيل قول الشاعر:
دع المساجد للعباد تسكنها ** وسر إلى حانة الخمار يسقينا

ما قال ربك ويل للأولى سكروا ** وإنما قال ويل للمصلينا

فإذا كان تعالى توعد بالويل المصلى الذي هو ساه عن صلاته ويراءي فيها فكيف بالذي لا يصلي أصلًا فالويل كل الويل له وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة مالم يتب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة أرأيت الماعون:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)}
قرأ الكسائي {أرَيْتَ} بسقوطِ الهمزةِ. وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام.
وقال الزمخشري: وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ، ولم يَصِحَّ عن العرب (رَيْتَ). والذي سَهَّلَ مِنْ أمرها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه:
صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ ** رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ

وفي {أَرَأَيْتَ} هذه وجهان:
أحدهما: أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحد وهو الموصولُ، كأنه قال: أبْصَرْتَ المكذِّبَ.
والثاني: أنَّها بمعنى: أَخْبِرْني، فتتعدى لاثنينِ، فقدَّره الحوفيُّ: (أليس مُسْتَحِقًَّا للعذابِ). والزمخشريُّ (مَنْ هو). ويَدُلُّ على ذلك قراءة عبدِ الله {أَرَأَيْتَك} بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ.
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليتيم (2)}
قوله: {فَذَلِكَ}: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ، أي: إن تأمَّلْتَه، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك.
والثاني: أنَّها عاطفةٌ {فذلك} على {الذي يَكَذِّبُ} إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ، أو صفةٍ على صفةٍ. ويكونُ جوابُ {أَرَأَيْتَ} محذوفًا لدلالةِ ما بعدَه عليه. كأنه قيل: أَخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيم ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، والخبرُ الموصولُ بعده، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: فهو ذاك والموصولُ نعتُه. وعلى الثاني يكونُ منصوبًا لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال: فجعل {ذلك} في موضعِ نصبٍ عطفًا على المفعولِ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولك: (أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا) فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ {فذلك} مرفوعٌ بالابتداء. وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ: أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا. فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ: أَكرَمْتُ الذي يزورُنا، فالذي يُحْسِن إلينا، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا. وأمَّا قوله إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ. فلا يَصِحُّ لأنَّ {فذلك} إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه بـ: {ذلك} واحد. وأمَّا قوله: ويكونُ جوابُ {أرأيتَ} محذوفًا فهذا لا يُسَمَّى جوابًا بل هو في موضع المفعولِ الثاني لـ: {أرَأيْتَ} وأمَّا تقديرُه أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر. انتهى.
والجوابُ عن قوله: فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ. إلى آخره: أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهامًا وهو {أرأيْتَ} فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قوله: لأنَّ {فذلك} إشارةٌ إلى {الذي يُكَذِّب} بالمنعِ. بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولك: (اضْرِبْ زيدًا، فذلك القائمُ) إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه.
وعن قوله فلا يسمى جوابًا. أنَّ النحاةَ يقولون: جوابُ الاستفهام، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك.
وعن قوله: والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر؛ بالمعارضةِ بقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فإنَّ (عسى) إنشاءٌ، فما كان جوابًا له فهو جوابٌ لنا.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه، أي: دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء {يَدَعُ} بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين، أي: يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي {ولا يُحاضُّ} مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)}
قوله: {لِّلْمُصَلِّينَ} خبرٌ لقوله: {فوَيْلٌ} والفاءُ للتسَبُّبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم.
قال الزمخشري بعد قوله: كأنَّه قيل: أخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله: أنِعْمَ ما يصنعُ. ثم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}، أي: إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم.
فإن قلت: كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائمًا مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحد؟
قلت: لأنَّ معناه الجمعُ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ.
قال الشيخ: وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ. ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآن إلاَّ على ما عليه الظاهرُ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآن ليسَتْ بواضحةٍ. انتهى.
قلت: وعادةُ شيخِنا- رحمه الله- التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحًا. وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ، وجَعْلُه شيئًا واحدًا، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها: من التكذيبِ بالدين ودَفْعِ اليتيم وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه، والسَّهْوِ في الصلاة، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ.
{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)}
قوله: {الذين هُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ، وأَنْ يكونَ منصوبَه، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعًا. نعتًا أو بدلًا أو بيانًا، وكذلك الموصولُ الثاني، إلاَّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعًا للمُصَلِّيْنَ، وأَنْ يكونَ تابعًا للموصولِ الأولِ. وقوله: {يُراؤُون} أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
قوله: {الماعون}: أوجهٌ، أحدها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: (مالُه مَعْنَةٌ) أي: قليلٌ، قاله قطرب.
الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُوْن كمَقول ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفًا كقولهم (تابَةٌ) و(صامَةٌ) في تَوْبة وصَوْمَة، فوزنُه الآن مَعْفُوْل. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي.
الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفًا، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن.
الثالث: من الأوجه الأول: أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه، وأحسنها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قول الأعشى:
بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه ** إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ

ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهًا على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحد. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في الدون والدين:
يقال للقاصر عن الشئ: دُون.
وقال بعضهم: هو مقلوب من الدنوّ، والأَدون الدّنئ.
وقوله تعالى: {لاَ تتخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} أي ممّن لم تبلغ منزلتُه منزلتكم في الدّيانة، وقيل في القرأبة.
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ} أي ما كان أَقلَّ من ذلك، وقيل: ما سوى ذلك. والمعنيان يتلازمان.
وقوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} أي غير الله، وقيل: معناه إِلهين متوسَّلًا بهما إِلى الله.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} أي ليس لهم من يُواليهم من دون الله.
وقد يُغْرَى بلفظ دون فيقال: دونك كذا أي تناوله.
وقال بعض أَئمة اللغة: دون نقيض فوق، ويكون ظرفًا، وبمعنى أمام ووراءَ وفوق، وبمعنى الشريف والخسيس، وبمعنى الأمر وبمعنى الوعيد.
وقال بعضهم: الدُون: الحقير الخسيس، وقد دان وأُدِين.
أَمّا الدِّين فيقال للطَّاعة والجزاء واستعير للشريعة.
والدّين كالملة لكنه يقال اعتبارًا بالطَّاعة والانقياد للشريعة.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أحسن دِينًا} أي طاعة وقوله: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} حَثّ على اتِّباع دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أَوسط الأَديان وخيرها، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قيل يعنى في الطَّاعة، فإِنَّ ذلك لا يكون في الحقيقة إِلاَّ بالإِخلاص، والإِخلاصُ لا يتأَتَّى فيه الإِكراه.
وقيل إِنَّ ذلك مختصّ بأَهل الكتاب الباذلين للجزية.
وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يعنى الإِسلام كقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
وقوله: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غير مَجْزيِين.
وقال بعضهم: الدِّين: الجزاءُ، دِنتُه دَيْنًا ودِينًا، والإِسلام وفد دِنتُ به، والعادة، قال:
تقول إِذا دَرَأتُ لها وضِينى ** أَهذا دينُه أَبدًا ودينى

والطاعة كالدينة فيهما بالهاءِ، والذّلّ، والداءُ، والحساب، والقهر والغلبة، والسّلطان والحكم، والتَّوحيد، واسم جميع ما يُتعبّد اللهّ به، والمِلَّة، والوَرَع، والمعصية، والإِكراه، ومن الأَمطار: ما تعاهد موضعًا فصار ذلك له عادة.
وفى الحديث: «إن الدّين يسرٌ» وفيه «إِنَّ دين الله الحنيفية السّمحة» وقال: «إِنَّ الدّين متين فأَوْغِل فيه برفق» ومن كلام العلماءِ كُلْ من كَدّ يمينيك.
ولا تأْكل بدِينك وقال الشاعر:
عجبتُ لمبتاع الضَّلالة بالهدى ** وللمشترى دنياه بالدين أَعجب

وأَعجبُ من هذين مَن باع دينه ** بدنياه سواه فهْو من ذين أَخيب

والدّين ورد في القرآن بمعنى التَّوحيد والشهادة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} أي التوحيد وله نظائر، وبمعنى الحساب والمناقشة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} أي الحساب وله نظائر أَيضًا، وبمعنى حكم الشريعة {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكمه، وبمعنى الإِيالة والسّياسة {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي في سياسته، وبمعنى المِلَّة {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} أي الملَّة المستقيمة، وبمعنى الإِسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهدى وَدِينِ الْحَقِّ}. اهـ.